الوراثة الغذائية: تأثير نمط الحياة على الجينات
إذا كانت جيناتنا تحدد نمونا، مظهرنا الخارجي، أدائنا وتطور الأمراض في أجسامنا، فكيف يمكن لشخصين يحملان نفس الحمولة الجينية، مثل التوائم المتطابقة على سبيل المثال، ألا يبدوان متشابهين دائمًا أو حتى يصابان بنفس الأمراض؟ السبب الرئيسي لذلك هو التفاعل بين نمط الحياة والبيئة مع جينومنا. على الرغم من أن الشفرة الجينية غير قابلة للتغيير (باستثناء الطفرات)، إلا أن تعبيرها يتأثر بالبيئة. نسمي هذا بالوراثة الغذائية: تغييرات في التعبير الجيني تنتقل وراثيًا، لكنها لا تصاحبها تغييرات في تسلسل الحمض النووي.
كيف تعمل الوراثة الغذائية؟
بينما تصف علم الوراثة انتقال تسلسل الحمض النووي الموجود في الجينات للجيل القادم، يمكن اعتبار الوراثة الغذائية انتقال الطريقة التي يتم التعبير بها عن الجينات. للاستعارة، فكروا في حفلة موسيقية: بينما يصف علم الوراثة الآلات الموسيقية التي يرثها الإنسان، تصف الوراثة الغذائية الموسيقى التي تنتجها تلك الآلات. إنها تصف العمليات التي تحدد أي جين يتم تنشيطه، أو بالمصطلحات الجزيئية، أي جين يتم التعبير عنه.
نحن نعلم أن إحدى الآليات التي تعمل بها الوراثة الغذائية هي إضافة وإزالة مجموعات الميثيل إلى الحمض النووي. توفر مجموعات الميثيل معلومات يتم من خلالها تنشيط أو كبت الجين، عن طريق تغيير النيوكليوتيد السيتوزين، أحد القواعد الأربعة للشفرة الوراثية في الحمض النووي. يتم ميثلة السيتوزين بواسطة إنزيمات الحمض النووي ميثيل ترانسفيراز (DNMTs)، مما يحول السيتوزين إلى 5-ميثيل سيتوزين. بشكل عام، يمكن القول أن العدد الكبير من جزيئات السيتوزين التي تم ميثلتها في الحمض النووي لجين معين، يؤدي إلى كبته. أي أنه لن يتم التعبير عنه.
الحمض النووي في خلايا النباتات والحيوانات ملفوف بالبروتينات، وتسمى هذه “الحزمة” الكروماتين. داخل الكروماتين، يتم تعبئة الحلزون المزدوج للحمض النووي في بروتينات تسمى الهستونات، وتسمى هذه التعبئة نيوكليوزوم. يتكون الكروماتين من سلسلة متكررة من النيوكليوزومات المحتفظ بها من قبل بروتينات إضافية. آلية وراثية غذائية أخرى هي تعديل الهستونات باستخدام مجموعات الأسيتيل أو الميثيل، وأشكال معينة من الحمض النووي الريبي مثل ال micro RNA (mRNA)، والحمض النووي الريبي التداخلي الصغير (siRNA). هذه الآليات تشارك في تغيير بنية الكروماتين، والتي تحدد ما إذا كان سيتم تنشيط أو كبت الجين. على غرار تنظيم الميثلة، يتم تنظيم الأسيتلة أيضًا عن طريق الإنزيمات: حيث تضيف هيستون أسيتيل ترانسفيراز مجموعات الأسيتيل، وتزيلها هيستون دي أسيتيلاز (HDACs).
من خلال الآليات الوراثية الغذائية مثل الميثلة أو الأسيتلة، يمكن كبت أحد الأليلات من جين معين، ولن يتم التعبير عنه. يمكن أن تنشأ مشكلة عندما يكون الأليل المعبر معيبًا أو يحتوي على نسخة من الجين تزيد من قابلية الكائن الحي للتأثر بعوامل بيئية معينة. وقد وجد أن ميثلة الحمض النووي متورطة في العديد من الأمراض والمشاكل الصحية، بما في ذلك السرطان.
حتى الآن، تم تحديد العديد من الآليات الوراثية الغذائية. بالإضافة إلى الميثلة والأسيتلة، فهي تشمل أيضًا الفسفرة، اليوبيكويتينية والسوموليشن (SUMOylation).
أين بالضبط تكمن العلاقة بين الجينات والبيئة؟
اليوم، يتم إرجاع العديد من الأمراض والسلوكيات إلى آليات وراثية غذائية، بما في ذلك السرطان، الاضطرابات الإدراكية، أمراض القلب والأوعية الدموية، مشاكل الخصوبة، الأمراض المناعية الذاتية والأمراض العصبية. العوامل البيئية مثل المعادن الثقيلة، مبيدات الآفات، دخان التبغ، الهيدروكربونات العطرية متعددة الحلقات، الهرمونات، النشاط الإشعاعي، الفيروسات والبكتيريا، معروفة أو يشتبه في أنها تقود الآليات الوراثية الغذائية، وتشمل هذه العوامل أيضًا المغذيات والمستقلبات الثانوية من مصادر نباتية.
لسنوات، اعتقد أن جيناتنا تحدد حالتنا الصحية، وأنه بمجرد فك الشفرة الوراثية، ستصبح الأمراض الوراثية شيئًا من الماضي. قدّر العلماء أن حوالي 100,000 جين مسؤولة عن تعقيد البشر، لكن عندما اكتمل مشروع تسلسل الجينوم البشري، اكتشفوا أن لدينا فقط حوالي 20,000 جين. هذا عدد صغير نظرًا لحقيقة أن الديدان الخيطية تمتلك حوالي 20,000 جين، والعنب يمتلك حوالي 30,000، والطماطم لديها ما يقرب من 32,000، وحقيقة أننا نتشارك 98 بالمائة من تسلسلنا الجيني مع الشمبانزي، و 70 بالمائة مع ديدان السنط التي تسكن أعماق البحار (حوالي 14,000 جين). أصيب الباحثون بالذهول واضطروا للاعتراف بأن الجينات وحدها لا تحدد تطورنا.
المثال الأقوى على هذا الاكتشاف هو تطور نحل العسل. تختلف النحل العاملة عن الملكة في الأنماط الظاهرية مثل الحجم، وكذلك في قدرتها على وضع البيض. يمكن للملكة وضع البيض، بينما النحل العاملة عقيمة. ومع ذلك، فإن الحمولة الجينية للملكة والنحل العاملة متطابقة. إذن، أين يكمن الاختلاف بينهما، إن لم يكن في الشفرة الوراثية؟
الجواب هو التغذية، أو على وجه التحديد، طعام الملكات. إنه إفراز يستخدم لتغذية يرقات معينة، وهذه اليرقات تصبح ملكات وليس عاملات. لفهم العملية، علينا العودة إلى الأسيتلة، الميثلة وتأثيرهما على التعبير الجيني. وجد أن طعام الملكات يحتوي على مثبط هيستون دي أسيتيلاز (HDAC)، الذي يمنع عمل الإنزيمات التي تزيل الأسيتيل من الهستونات. يفترض الباحثون أن هذه هي العملية التي تنشط الجينات اللازمة لتطور الملكة. كشف بحث في هذا الموضوع عن آلية أخرى: عندما قللوا من كمية مجموعات الميثيل عن طريق إضافة إنزيمات DNMT إلى اليرقات، أصبحت هذه اليرقات أيضًا ملكات، على الرغم من أنها لم تُغذى بطعام الملكات. في هذه الحالة، أدى انخفاض الميثلة إلى التعبير عن الجينات اللازمة لتطور الملكات.
كيف يمكن التأثير على جيناتنا من خلال النظام الغذائي؟
هناك اسم لذلك
يعد تطور نحل العسل مثالاً واضحًا على أن النظام الغذائي هو أحد مكونات نمط الحياة التي تؤثر بشكل كبير على جيناتنا. أظهرت العديد من الدراسات على البشر والحيوانات ومزارع الخلايا أن المغذيات الكبيرة مثل الأحماض الدهنية، والمغذيات الدقيقة مثل الفيتامينات، والمستقلبات الثانوية من مصادر نباتية (مثل الفلافونويد، الكاروتينويدات، الكومارينات والفيتوستيرولات) التي توجد بشكل طبيعي في الطعام، تشارك بشكل مباشر في الاستجابات الأيضية وحتى تنظم التعبير الجيني.
نتيجة لهذا الاكتشاف، تطور مجال الجينوميات الغذائية، الذي يدرس تأثير الطعام ومكونات الطعام على التعبير الجيني. لا يؤثر الطعام فقط على جيناتنا، بل إن الاختلافات الجينية بين شخص وآخر تحدد أيضًا أي عملية أيضية سيمر بها الطعام الذي نتناوله. يحاول مجال الجينوميات الغذائية إيجاد إجابات للسؤال حول كيفية تأثير المغذيات أو الأنماط الغذائية المختلفة على صحة الإنسان.
جوع الأم وصحة أطفالها
نشأت إحدى المناقشات الأولى حول العلاقة بين التغذية والجينات والأمراض بسبب الملاحظات التي أجريت على الأشخاص الذين ولدوا خلال فترة المجاعة في هولندا في شتاء 1944-1945، في خضم الحرب العالمية الثانية، مقارنة بمجموعة ضابطة. سمحت هذه الملاحظات للعلماء بدراسة كيف يمكن للتغيرات في نظام الأم الغذائي أثناء الحمل أن تؤثر على مستوى خطر الأمراض الأيضية أو القلبية الوعائية لدى النسل في مرحلة البلوغ. تم العثور على نوافذ زمنية محددة خلال الحمل تحدث فيها “برمجة جنينية”. على سبيل المثال، تعرض الأطفال الذين ولدوا بوزن منخفض للمجاعة في الثلث الثالث من الحمل، والأطفال الذين ولدوا بوزن مرتفع تعرضوا للمجاعة في الثلث الأول من الحمل. كما وجد أن التعرض للمجاعة أثناء الحمل يزيد من تواتر اضطراب التمثيل الغذائي للجلوكوز ومرض السكري من النوع 2 في مرحلة البلوغ. عُزيت الاختلافات الوراثية الغذائية المتسقة إلى التعرض للمجاعة قبل الولادة. ينظم التمثيل لجين عامل النمو الشبيه بالأنسولين 2 (IGF2) نمو وتطور الجنين، وفي ملاحظات من فترة المجاعة، يمكن ملاحظة انخفاض في تمثيل جين IGF2 مقارنة بالإخوة من نفس الجنس الذين لم يتعرضوا للمجاعة.
Handbook of Nutrition, Diet, and Epigenetics. (2019) Vinood Patel, Springer
ما هي الأطعمة التي يمكن أن تغير الوراثة الغذائية لدينا
في حين أنه ليس لدينا القدرة على التأثير على نظام الأم الغذائي، فإن الأخبار الجيدة هي أنه يمكننا إحداث تغييرات وراثية غذائية في أجسامنا. تم فحص النظام الغذائي للبحر الأبيض المتوسط، الذي وجد أن له تأثيرًا مفيدًا على مخاطر القلب والأوعية الدموية وارتفاع ضغط الدم والالتهابات والمضاعفات الأخرى المرتبطة بالسمنة المفرطة، في تجربة محكومة عشوائية لمعرفة ما إذا كان يمكن عزو الاستمرار في هذا النظام الغذائي إلى تغييرات في الميثلة في خلايا الدم المحيطية. وجد أن الالتزام بالنظام الغذائي للبحر الأبيض المتوسط الغني بالخضروات وزيت الزيتون والفقير باللحوم، يرتبط بميثلة الجينات المتعلقة بالالتهاب، مع إمكانية تأثير تنظيمي. وجدت دراسة أخرى أن التغيير الجذري في النظام الغذائي ونمط الحياة أدى إلى تغييرات كبيرة في التنظيم الوراثي الغذائي للتمثيل الغذائي وتعديل البروتين وحركة البروتين داخل الخلية وفسفرة البروتين لدى الرجال المعرضين لخطر متزايد للإصابة بسرطان البروستاتا. نظرًا لأن هذه العمليات البيولوجية تلعب دورًا مهمًا في تطور الأورام، فإن النظام الغذائي ونمط الحياة يمكن أن ينظما التعبير الجيني في غدة البروستاتا.
ولكن كيف يمكن أن يحدث هذا؟ بعض المركبات الكيميائية الحيوية الموجودة في الطعام، مثل الجينيستين الموجود في فول الصويا، الريسفيراترول – وهو فيتو ألكسين موجود في العنب الأحمر والنبيذ الأحمر، أو السلفورافان – وهو أيزوثيوسيانات موجود في الخضروات الصليبية مثل البروكلي، هي روابط ترتبط بعوامل النسخ وبالتالي تؤثر بشكل مباشر على التعبير الجيني والمسارات في دورة الخلية. وقد وجد أنها منظمات للتعبير والنشاط الإنزيمي للإنزيمات DNMTs و HDACs، وهي إنزيمات مهمة تنشط وتكبح جينات محددة تشارك في عمليات الشيخوخة وتطور السرطان.
كيف تؤثر البكتيريا على الجينوم الغذائي؟
هناك آلية أخرى:
يؤثر نظامنا الغذائي أيضًا على الميكروبيوم في الجهاز الهضمي: البكتيريا التي تعيش في الأمعاء، تغير التعرض الغذائي، ولها تأثير منهجي على الجسم بأكمله. تقوم بكتيريا الأمعاء بتحليل المغذيات الكبيرة، كمجموعات متخصصة أو كمجموعات ذات أدوار مختلفة تعمل معًا، في مجموعة متنوعة من المسارات الأيضية المختلفة. تؤثر المستقلبات الميكروبية من الطعام أيضًا على التعبير الجيني ويمكنها، على سبيل المثال، المساعدة في تقليل خطر الإصابة بسرطان الأمعاء لدى البشر عن طريق إنتاج حمض البوتيريك من الألياف الغذائية، عن طريق تغيير مخزون المركبات التي تؤثر على التعبير الجيني، أو عن طريق التثبيط المباشر للإنزيمات المشاركة في المسارات الوراثية الغذائية. تتعرض بطانة الأمعاء بشكل مباشر لهذه المستقلبات، وبعضها يتدفق إلى مجرى الدم.
يختلف الميكروبيوم البشري بشكل كبير من شخص لآخر، وكذلك تأثيره على العمليات الوراثية الغذائية. هذا قد يكون التفسير لحقيقة أنه حتى عندما يتعرض كائنان متطابقان تمامًا لنفس الظروف البيئية، فإن النشاط الأيضي المختلف في الميكروبيوم الشخصي لكل منهما سيؤدي إلى اختلافات في التنظيم الوراثي الغذائي لديهما. لا توجد حتى الآن الكثير من المعلومات والأبحاث حول التأثير المباشر أو غير المباشر للميكروبيوم على العمليات الوراثية الغذائية، ولكن البحث المتكامل في هذين المجالين ينطوي على إمكانات هائلة.
وبالمثل، لا يزال الباحثون يحاولون تقديم توصيات غذائية تهدف إلى التأثير بشكل مباشر على الميكروبيوم، وبالتالي على صحة الإنسان. أحد الأهداف المرغوبة هو العلاج الغذائي الفردي الذي يركز على الجينوم الغذائي. نحن فقط نبدأ في اكتشاف تأثير الأطعمة المختلفة على المسارات الوراثية الغذائية والأمراض المنسوبة إليها.
النتائج البحثية المثيرة لا تزال في المستقبل!
لقراءة باقي المقالات في السلسل:
تمت ترجمة المقال بواسطة أديم رابي من سلسلة مقالات “قوة التغذية” (The Power of Nutrition) على موقع المنظمة الدولية PAN International. للمقال الأصلي.